Thursday, July 05, 2012

نهاية ثورة الإسلاميين في السودان

نهاية ثورة الإسلاميين في السودان

إبراهيم علي إبراهيم
المحامي/واشنطن

كان سر قوة الحركة الإسلامية السودانية يكمن في دعوتها للدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة، والعدالة الاجتماعية والمساواة، واقتصاد السوق الحر التي عادة ما تجد قبولا وسط الشعوب المسلمة البسيطة. إلا انه بعد تجربة أكثر من عقد ونصف في الحكم تلاشت تماماً هذه القوة بموجب فكرة القوة نفسها التي أجهضت تلك المبادئ. وكان على الإسلاميين بعد توليهم أمر الحكم ارتكاب العديد من الأخطاء الجسيمة "الضرورية" في سبيل تحقيق القضايا الأمنية الكبرى وتطبيق تلك المبادئ الإسلامية، شأنهم شأن غيرهم من السياسيين الذين ينظرون دائما للمستقبل.

وبالطبع يرجع الفضل في صياغة هذه المبادئ والأفكار ونجاح الحركة الإسلامية في السيطرة على مقاليد الأمور في السودان في صبيحة 30 يونيو 89 إلى أفكار الشيخ حسن الترابي دون منازع، فقد وهبها سني عمره وعقله وعاطفته، إلى أن أوصلها للسلطة عبر الانقلاب العسكري. وكما يحلو للإسلاميين العرب تسميته بالشيخ الوحيد الذي أتى للحركة بدولة! وللأسف بفضله أصبح السودان في عهده وطناً للإسلاميين المتشددين الذين طردوا من أوطانهم نتيجة لتطرفهم وأفكارهم التكفيرية والانتحارية. كذلك كان سر قوة الحركة الإسلامية في السودان يرجع إلى ذلك المزيج النادر بين الرجال الحركيين والأفكار التي كان يروج لها الترابي آنذاك.

أما النائب علي عثمان طه الذي نال مؤخرا أيضا لقب "الشيخ" فمنذ أن أوكل إليه أمر تنفيذ الانقلاب قام بتكوين مجموعات تجارية واقتصادية داخلية ضخمة، من الأقارب والموالين وذوي العصبة، تتبع له مباشرة، وظف لها كل إمكانيات الحركة من قوة ومال وإعلام، كما قام بتكوين شبكة أمنية أوعز لها بتوظيف الموالين له فقط، ومن أهله وعشيرته، وحدد لها مهمة محددة هي تمكينه من السلطة، وحشد الأصوات اللازمة لأي عمل سياسي. كما أسس حلقات سياسية منظمة داخل الحركة ليضمن ولاءها له وحده لدرجة انه استطاع أن يحشد كل الأصوات لصالح موقفه في إقصاء الشيخ الترابي. كذلك لعب علي عثمان دورا كبيرا في تصعيد دور العسكريين المتحالفين مع الحركة والذين اتضح ضعفهم السياسي والفقهي بعد كل هذه السنوات في الحكم والتجربة.

وبعزل الترابي فقدت الحركة الإسلامية السودانية عقلها وقلبها النابض وأصبحت ضعيفة تتناوشها الرياح الدولية وتعصف بها أنواء القضايا المحلية المستفحلة، ويواجه قادتها أوامر القبض التي أصدرتها محكمة الجنايات الدولية. وهكذا بدأت نهاية ثورة الإسلاميين في السودان. صحيح أن علي عثمان والبشير لا يزالان يقبضان على السلطة، ولكن لهيب النار قد خبأ واختفى بريقه، وان الاستراتيجيات والسياسات التي شكلت توجهات الإنقاذ في الفترة الماضية التي وضعها الترابي ورفاقه لا تحكم إنقاذ اليوم.

يقول بعض الإسلاميين أن نهاية الحركة الإسلامية قد بدأت قبل ذلك بوقت طويل. وان الثورة ماتت يوم قفزت الجبهة القومية الإسلامية للأمام لاستلام السلطة بالانقلاب العسكري، تاركة برنامجها الديني ورائها. وماتت الثورة بسبب التكلفة البشرية والمادية الباهظة للجهاد الذي أعلنته ضد أجزاء أساسية من مواطني الدولة التي تريد أن تنفذ فيها مشروعها الحضاري، وماتت بسبب العنف غير المبرر أخلاقيا ضد معارضيها في المعتقلات وبيوت الأشباح سيئة الذكر التي يمارس فيها التعذيب والإذلال والتصفيات بصورة سبقت وفاقت سمعة أبو غريب. فمنذ أيامه الأولى ابتعد النظام الإسلامي عن كريم الأخلاق الإسلامية الحسنة لدرجة وصفته الصحافة العالمية بأنه نظام خليط بين الحكم الديني وجماعات المافيا، ووصفه بن لادن الذي كان ضيفاً عليه بأنه "نظام للجريمة المنظمة".

وماتت الثورة بسبب ما ظنه الإسلاميون "متطلبات ومستحقات السلطة والحكم" وعواقب استخدام سياسة القوة التي حكمت بها الإنقاذ في دولة مفككة ومنقسمة على نفسها وتحمل مزيدا من أسباب الفرقة والشتات، وبسبب الحرب التي شنتها ضد المسلمين أنفسهم في دارفور وشرق السودان، والنيل الأزرق وجبال النوبة، وبسبب تحول مراكز القوى في الحركة الإسلامية إلى القصر الجمهوري ومكاتب الأمن والمخابرات نتيجة لهذه السياسات.

فمثلها مثل باقي الأنظمة اعتمدت الإنقاذ على ثابت في السياسة السودانية لم يتغير في كل الأزمنة والحكومات ولم تشاء الإنقاذ تغييره، وهو علاقة الخرطوم بالأقاليم المختلفة تلك العلاقة التي تستند إلى تاريخ طويل من الاستغلال والحروب. وحقيقة قد جسدت الإنقاذ هذه العلاقة وكرست سياسات الظلم وانعدام العدل والمساواة، فوطدت سلطتها في الخرطوم عبر تحالف ومزج لثلاثة عناصر هي: تحالف قبلي واسري، تحت غطاء إيديولوجي إسلامي، تسنده آلة عسكرية أمنية. والغريب في الأمر رغم ظاهر الحال لا زالت الإنقاذ تتجاهل حقيقة تنوع السودان الديني والثقافي والعرقي، ولا تزال متمسكة بتطبيق مشروعها الثقافي الآحادي على كافة أقسام الشعب المختلفة والمتعددة فاندلعت الحرب عليهم من كل جانب في القطر، يقودها بنوها في بعض الجهات. وهذه مسيرة غباء نسجتها الإنقاذ بنفسها فلم تجد يوماً بلا حروب لتلتفت إلى قضايا التنمية والبناء والعدالة الاجتماعية والمساواة التي نص عليها الإسلام المتسامح.

ليس هذا فحسب، بل أن الإنقاذ عزلت نفسها عن قطاعات الشعب المسلمة التي "جاءت من اجلها" ولبناء دولتها، ففشلت في تحقيق تحالف بين المسلمين، وفضلت الانفراد بالسلطة والثروة، فلم تستوعب في أجهزة الحكم إلا كادرها الملتزم، ونأت بنفسها عن تيار الإسلام الوسطي العريض الذي يشكل السودان، كما نأت بتجربتها عن إشراك الطائفتين الدينيتين الكبيرتين والطوائف الأخرى رغم تمسكها بالإسلام. وهكذا أصبحت أداة الثورة ومحركها "الإسلام الحركي والأصولية" أداة عرقلة وفشل "للدولة الإسلامية" بعد أن كانت أداة جمع وحشد للحركة الإسلامية.

إن عزل الترابي في نهاية التسعينات كان بمثابة المؤشر الأخضر لتحرك الإنقاذ نحو نهايتها المحتومة الدانية. فالحركة الإسلامية التي ظلت تدعو وتطالب بدستور إسلامي حاربت من اجله منذ الستينات واتهمت معارضيه بالإلحاد والكفر عندما استلمت السلطة أتت بدستور دكتاتوري شبه علماني، لم ترد فيه كلمة أو إشارة لدين الدولة أو إسلاميتها. وهكذا انتهى حلم الإسلاميون بجمهورية إسلامية على أيديهم.

والآن يواجه إسلاميو السودان أسوأ وضع تشهده حركتهم في تاريخها الطويل، حيث يواجهون مشاكل معقدة ليس في يدهم حلها مثل قضية دارفور وسلسلة طويلة من النزاعات مع الحركة الشعبية الشريك في الحكم، وتكاثر وجود القوات الأجنبية والإفريقية ووقع حوافر القوات الدولية على الأبواب. وتواجه قيادتهم عدد من البلاغات الجنائية وأوامر القبض التي طالت حوالي ستين منهم لارتكابهم جرائم الحرب وانتهاك حقوق الإنسان، وسلسلة من الفضائح الدينية والأخلاقية مثل التصفيات التي أعقبت محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك الفاشلة، والتي كشف عنها تفاصيلها المثيرة الترابي بنفسه مؤخرا.

فمثلما كشف الشيخ الترابي "صاحب الثورة" عن سوءاتها وجرمها وانحلالها الأخلاقي والديني، كشفت تصريحاته الأخيرة عن الغطاء الإيديولوجي المتهالك الذي كان يوفره لها الشيخ نفسه. وبالفعل أصبحت الإنقاذ بلا غطاء أيدلوجي بعد إزاحة الترابي وعزله، حيث لم تمنعهم قدسيته وأبويته للحركة و"ثورتها" من اعتقاله فأصبحت ثورتهم أول ثورة في التاريخ "تأكل أباها" كما قال د. قرنق. كذلك انكشفت أفكار الشيخ الدينية "باعتباره المرجعية الدينية" بعد جرأته الأخيرة في الفتيا التي البت عليه شيوخ الإسلام في بقاع الدنيا.

هذا الانكشاف والتعري الإيديولوجي جرد الحركة الإسلامية من أهم أسلحتها وهو قدرتها على تعبئة الجماهير وراء قراراتها بتوظيف سحر العباءة الدينية لصالحها. وفي ظل تنكر الترابي لأحكام ترى غالبية المسلمين صحتها وثباتها، تواجه الحركة الإسلامية إشكالا موضوعيا في شرعيتها الدينية نفسها.

لإنعاش الحركة الإسلامية وثورتها يقترح البعض انجاز وحدة بين الفريقين الوطني والشعبي وإعادة الروح للشعارات القديمة: جمهورية إسلامية بدستور إسلامي ومشروع حضاري ودولة عدالة اجتماعية ومساواة! ولكن هناك استحالة في حدوث تلك الوحدة خاصة أن الجراح التي تركها الانقسام ما زالت تنزف وقد زادتها تصريحات الترابي الخطيرة نزفا، لدرجة تؤكد أن صراعات الحركة الإسلامية قد وصلت مرحلة "علي وعلى أعدائي" في حرب البقاء. وهذه آخر مراحل الثورات. فكيف يتسنى للإنقاذ إعادة الروح لجسدها بعد أن فقدت جذوتها وقوتها والرؤية والأشخاص الذين يستطيعون القيام بتغيير وجهة الإنقاذ أو تغيير الواقع السياسي الماثل.

فعلى مدى عقد ونصف من الحكم فقدت الإنقاذ صدقيتها الدينية وفقد شيوخها القدرة على التأثير المعنوي ليس على الآخرين فحسب بل على أتباعهم بصفة خاصة. وحقيقة لا يوجد الآن اتفاق وسط المفكرين الإسلاميين في السودان حول ما تعنيه "ثورة الحركة الإسلامية" ، وان الإسلاميين الآن لا يقودون حركتهم ولا يملكون شيء في ثورتهم، وان المفكرين الإسلاميين لا مكان لهم إلا في صفحات الصحف. وأصبحوا ضيوفا على "ثورتهم" لا يساهمون في دعمها إلا بأضعف الإيمان وتمني عدم زوالها، فاختاروا طريقاً ثالثاً هو طريق الصمت بعد أن جبلوا على الحركة والثورة. لهذا أصبحت "الثورة" في أيدي قلة قليلة تربط بينها روابط عرقية وجهوية، لا زالت تمسك بزمام عسكري وامني، ولها خلافات شديدة مع الإسلاميين الحركيين والمفكرين في كل شيء تقريباً، وتعمل على تهميشهم كل يوم. وفي ظل غياب الايدولوجيا والأفكار المتماسكة أصبحت البرجماتية هي التي تحكم الإنقاذ. كل هذه تحديات قوية قد تعصف بما تبقى من الإنقاذ إن لم ينقذها منقذ آخر.

أما حزب "الثورة" المؤتمر الوطني فهو حزب صنيعة الإنقاذ الذي اختزلت فيه الحركة الإسلامية السودانية فتحول إلى اتحاد اشتراكي آخر، وأصبح ولاءه مقسما بين البيوت والأسر المستنفذة في الإنقاذ، كما صار ناديا لاقتسام غنائم السلطة والصراعات بين أقطاب الحركة. وبعد أن كان مقررا له أن يصبح الحزب الوحيد في الدولة وضعته الأقدار إلى جانب شركاء آخرين داخل قبة البرلمان ففقد الأغراض التي من اجلها صنع. وسوف يشهد هزيمة نكراء في أول انتخابات حرة ونزيهة تشهدها البلاد.
ونتيجة لهذه الأزمات السياسية المتفاقمة والقضايا التي تورط فيها قادة الإنقاذ يبدو أنهم عاجزين عن الدفاع عن أنفسهم ناهيك عن الدفاع عن حركتهم التي بنوها وثورتهم التي أتوا بها. وهكذا انتهت ثورة الإسلاميين في السودان!.
انتهى






Tuesday, February 05, 2008

عودة الحركة الشعبية
أم عودة أولاد قرنق؟

إبراهيم علي إبراهيم المحامي
واشنطن،

بعودة الحركة الشعبية لحكومة الوحدة الوطنية تكون قد عبرت بوضوح عن رضاها بالمواصلة في تنفيذ اتفاقية السلام رغم بقاء نفس العقد والقضايا دون حل يذكر، مثل مسالة ترسيم حدود اخطر واغني بقعة في السودان وهي منطقة أبيي الغنية بالنفط، وعملية انسحاب القوات المسلحة السودانية شمالا إلى حدود 1956، إضافة إلى قضية ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب، حيث تقرر إحالة جميع هذه القضايا العالقة إلى مصفوفة أو جدول للتنفيذ قد يصبح موازياً لجداول التنفيذ المرفقة بنيفاشا، مما ينفي عنها صفة الإلحاح. وبالطبع لم تكن قضايا مثل الحكم اللامركزي والتحول الديمقراطي ضمن القضايا المثارة والتي لم تلق اهتماما من الشريكين حتى هذه اللحظة.

وحقيقة كانت عملية السلام في نيفاشا قد دفعت بافتراض أن يصل الطرفان إلى قرار نهائي بشأن الوحدة أو عدمها في خلال ست سنوات هي عمر الاتفاقية. وقد أثبتت الأيام أن هذا لم يحدث على ارض الواقع إذ أن تنفيذ كل بنود نيفاشا يعني باختصار تحقيق "الوحدة الجاذبة" وما عداه يعني ترجيح خيار الانفصال في نهاية المطاف. وطالما أن التزام حكومة الإنقاذ بالوحدة الجاذبة هو أمر تجريدي وقابل للنقض، تبقى قضية أبيي، وانسحاب الجيش الشمالي التام من الجنوب، هي قضايا هامة تعادل أهمية استقلال الجنوب في نظر البعض.

وكان متوقعا من الشريكين الموقعين على الاتفاق أن يتحملا مسئولياتهما تجاه تنفيذ شروطه دون تجزئة أو استثناء، وان يكونا قادرين على تحويله إلى واقع. ولكن يبدو أن واقع حال الشريكين يتسم بالاهتزاز والضعف، فقد أعادت نيفاشا ترتيب الأوليات بالنسبة للطرفين مثلما أعادت ترتيب مراكز القوى فيهما. وأدت صراعات مراكز القوى داخل تنظيمات الشريكين و تصادماتهما إلى زيادة حدة الأزمة الأخيرة، وربما تعمدت بعض الجهات نشوبها وعملت لأجل ذلك.

فلم يكن الرأي داخل الإنقاذ متجانسا بخصوص الاتفاقية، فهناك على الأقل ثلاثة تيارات ووجهات نظر متعارضة: فالأولى وجهة نظر معتدلة رأت الاستفادة من الظروف "وتجريب" التعايش السلمي مع الحركة لست سنوات ونصف، بعد طول "جهاد" لم يثمر عن شيء بقدر ما استهلك قدرات ومقدرات الدولة والحركة الإسلامية، ووجهة نظر ثانية قوامها الجيش والأجهزة العسكرية والأمنية النظامية منها وغير النظامية التي لا زالت ترتكن إلى فكرة تدمير الحركة الشعبية وإخضاعها بالقوة والمواجهة المسلحة المستمرة، و فئة ثالثة متفرعة عن الثانية وتلتقي معها في هذا الهدف تقبلت اتفاقية نيفاشا للسلام "كأمر واقع" وكوسيلة لتدمير الحركة على مراحل.

تسبب هذا الواقع الجديد الذي خلقته نيفاشا في إحداث صراعات واحتكاكات على كافة الأصعدة داخل النظام الحاكم، دفع نتيجتها "المعتدلون" الذين اشرفوا على المفاوضات والاتفاقية الثمن غالياً، فلم يلقوا ثناء، وبدلا عن ذلك نالوا جزاء ما حققوه من سلام وتم إبعادهم من السلطة الفعلية والأضواء، وشهدت الخرطوم انطلاق حملة سرية رسمية ضدهم وضد الاتفاق أطلقها صقور النظام الرافضون للسلام. وبدلا عن ذلك صعدت المنظومة الأمنية والعسكرية وصقور النظام وقبضت بشدة على مفاصل السلطة والدولة والتنظيم.

ومن جانب الحركة الشعبة عمل استشهاد د. جون قرنق على الإخلال بمراكز القوى داخلها، فقلت فعالية ما يسمى "أولاد قرنق" الذين كانوا يسيطرون على مفاصل الحركة والقرار فيها، واشرفوا على عملية التفاوض وتوقيع الاتفاق والترويج له، حيث تم إبعادهم عن المناصب العليا والحساسة، وبدلا عنهم صعدت شخصيات لم تكن تنال احتراما من قبل دكتور قرنق نفسه، وتولت مناصب قيادية ليست في الحركة فحسب بل في الدولة وسلطة الجنوب معا.

وفي ظل هذا التنافس بين القوى المركزية المتصارعة داخل الحركة الشعبية وبين صقور النظام المتزامن مع عدم تنفيذ قضايا أساسية مثل حدود أبيي وانسحاب القوات المسلحة شمالا إلى حدود 1956 كان لابد من نشوب الأزمة وحدوث التصادم، وتمكن "أولاد قرنق" العائدون بقوة من إدارتها بحنكة تامة وتوجيهها وتصعيدها إلى أقصى درجة، بعد أن اعدوا لها بزيارات سابقة لواشنطن اجتروا فيها مر الشكوى من أن قضية دارفور قد خطفت الأضواء من اتفاقية نيفاشا وان هنالك خطرا بالتالي عليها، ومن عدم رغبة النظام في تنفيذ بعض بنودها، ثم نجاحهم في تشكيل لجنة السفير شستر كروكر – فرانسيس دينق المناط بها مراقبة تنفيذ نيفاشا.

وكانت الحركة قد أظهرت تصميماً غير مسبوق على إيصال الأمور لهذا الحد من المواجهة حسبما شهدنا والتي بلغت حد طلب "الاستقواء" بالولايات المتحدة. وتجاهلت هذه الخطوة الخاطئة التقويم السنوي للسياسة الأمريكية، إذ ليس من الوارد أن تعمل الولايات المتحدة على استضافة مؤتمر لرعاية تنفيذ الاتفاقية في هذا التوقيت من السنة الانتخابية، كما أن الإدارة الأمريكية لن تغامر بإعادة النظر في نيفاشا التي تعتبر إحدى انجازات إدارة الرئيس بوش في السياسة الخارجية، كما أن التعاون الاستخباراتي بين إدارة بوش ونظام البشير فيما يسمى بالحرب على الإرهاب والأصولية الإسلامية لا زال يعتبر أمرا مهما في نظر إدارة بوش لا يمكن المخاطرة بخسرانه في هذه الظروف.

وكانت الإدارة الأمريكية تدرك مخاطر هذا "اللجوء" و"الشكوى" وتعلم جيدا أنها لو طلبت من أي شريك تنفيذ أكثر مما يتحمله فان هناك خطرا من وقوع فشل اكبر لها، كما تدرك بصورة أكثر إن طرح أي حل أو وصفة جاهزة يقصي التحالفات السياسية التي أوجدتها نيفاشا سيمنع تحقق تقدم في نهاية المطاف ويهدد مستقبل الاتفاقية برمتها. كذلك إن الإدارة تعي جيدا أن الإخلال بتوازن الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة أو دول الاتحاد الأوروبي و الإفريقي للشريكين بصورة قد ترجح كفة شريك على حساب الشريك الآخر سيؤدي في النهاية إلى إلغاء قيمة هذا الدعم كلية، ويزيد من زعزعة الأوضاع وإهدار السلام في النهاية.

كل هذا جعل الإدارة الأمريكية تصد الأبواب وتصم الآذان في وجه النائب الأول سلفكاير في زيارته الأخيرة للولايات المتحدة، و لم تبذل جهدا مقدراً لإنجاح محاولته لمخاطبة مجلس الأمن الدولي بصفته رئيساً لحكومة الجنوب مما يدل على ضعف الدعم الأمريكي لهذه الخطوة الجريئة، رغم المحاولات الظاهرة التي أجراها المندوب الدائم الأمريكي زلماي خليلزاد.
وكانت الضحية بالطبع هي حكومة الوحدة الوطنية التي تعتبر اضعف الحلقات في اتفاقية نيفاشا. وقد أثبتت التجربة أن نسبة مشاركة الحركة في السلطة هي نسبة في عدد الوظائف التنفيذية فقط، وليست نسبة من السلطة الفعلية للحكومة. كل هذا جعل حكومة الوحدة الوطنية تبدو مثل عصا المطاط، لا يمكن كسرها، ولكن كثرة الشد والجذب جعلتها كلها اعوجاج. كذلك دفع الوزيرين لام أكول وتيلارا دينق منصبيهما ثمنا لذلك، مما أعاد إلى الأذهان قصة رئيس الوزراء الصادق المهدي وحله للحكومة الديمقراطية الأخيرة من اجل إزاحة الوزير أبو حريرة الذي تعذر عليه إقالته.

بالطبع لم تحل جميع المشاكل العالقة، وتم ترحيلها مثل ما يحدث كل مرة لوقت آخر، ولكن في النهاية إن ما حدث تم تسجيله كسابقة خطيرة في تعريض الاتفاقية لخطر الانهيار، وسيناريو قد يتكرر مع الشريكين ومع حركات أخرى مثل حركة دارفور أو جبهة الشرق التي وقعت اتفاقات مع الحكومة.

انقشعت الأزمة الآن وعاد "أولاد قرنق" لمقاليد الأمور بقوة رغم أن ذلك اخذ منهم أكثر من عامين، وكلف إثارة أزمة كادت تعصف باتفاق شامل تعتبر الحركة الشعبية هي المستفيد الأول منه، مما يفرض عليها أن تكون الأحرص على تنفيذه واستمراره لحين انتهاء اجله. صحيح أن قضية أبيي هي في غاية الخطورة من الناحية السياسية وتنذر بخطر قريب، كما لها أهمية من الناحية النفسية إذ ينتمي لها بعض قيادات الحركة الشعبية، كما أن قضية تحديد هوية النفط ما إذا كان شماليا أم جنوبيا هي قضية مهمة لارتباطها بتحديد نسبة نصيب الجنوب منه، ولكن هاتان القضيتان ليستا ملحتان بالقدر الذي يؤدي إلى إثارة أزمة ويدل على ذلك تحويلهما لوقت آخر عبر هذه المصفوفة.

إن اخطر ما يهدد اتفاق السلام وآلياته هو محاولة البعض للالتفاف حوله عن طريق خلق آليات موازية له، وجداول تنفيذ أخرى بديلة لتلك التي حددتها نيفاشا مهما كانت تسميتها. وتبرز علامات استفهامية كبيرة حول جدوى التدابير "المصفوفة" ومدى قدرتها على حل كافة القضايا العالقة، ومدى قوتها مقارنة بجداول تنفيذ اتفاقية نيفاشا، بصورة يسهل معها القول إن الأمر لا يعدو أن يكون سوى تكرارا للنصوص ذاتها. إن ما يعوز الطرفين ليس مزيدا من النصوص بقدر ما يعوزهما مزيد من العزم والتصميم على تنفيذ التزاماتهما التي نص عليها الاتفاق. وإن ما يهم جماهير الشعب السوداني ليس هو عودة "أولاد قرنق" للسلطة وإنما هو قدرة هذا الفريق على انجاز قضايا أساسية مثل الحكم اللامركزي والتحول الديمقراطي عبر الانتخابات القادمة، وتقرير المصير. وإن المساس بالبنية القانونية للاتفاقية أو التساهل فيها يعني السماح بتدمير السلام.

صحيح إن لام اكول وتيلارا دينق فقدا منصبيهما نتيجة لهذه الأزمة، ولكن سيكون لذلك في نهاية المطاف مردوده السيئ على بنية الحركة التنظيمية التي أساسها القبيلة، مما ينذر بمحاولة قريبة للانتقام يكون مسرحها هذه المرة جنوب السودان وليست حكومة الوحدة الوطنية. ومثلما أخذت عودة "أولاد قرنق" مدة عامين تقريباً فان أي ردة فعل متوقعة ستأخذ وقتاً هي الأخرى، رغم أن من يعرف لام أكول وما اشتهر به من عدم صبره على الأشياء قد يقول قولا مغايراً.
محامي وباحث متخصص في شئون الكونغرس.
نقلا عن صحيفة الرأي العام السودانية.






Labels:

Wednesday, January 16, 2008

أفريكوم
اتجاه جديد في العلاقات الأمريكية- الإفريقية


استضاف معهد أمريكان انتربرايس" احد القلاع الفكرية للمحافظين الجدد"، في صباح العشرين من سبتمبر الماضي مؤتمرا في غاية الأهمية حول تأسيس قيادة "افريكوم". وهذا المعهد معروف بدوره المهم والخطير الذي يلعبه في الكثير من القضايا الدولية وذلك برفده للإدارة الجمهورية الحالية بالمشورة وصياغة السياسات التي بلغت حد الترتيب لغزو الدول وإعادة صياغة الخارطة الدولية. ولأني من المداومين على متابعة أنشطته وتحليلها، فقد أطلقت عليه اسم "المطبخ" حيث شهدت فيه وتابعت ولادة "سياسة" أو "عملية طبخ" غزو العراق خطوة بخطوة وفكرة بفكرة، وفيه شاهدت احمد شلبي يحمل أوراقه بصحبة المفكر عدنان مكية يتقدمهم "أمير الظلام" ريتشارد بيرل الذي قدمه للمحافظين الجدد، ليعرض أفكاره حول ضرورة إزالة نظام صدام حسين بالغزو العسكري.

تركزت فعاليات المؤتمر الذي اتسم بالزحام الشديد حول قضايا الأمن الإفريقية والعلاقات الأمريكية الإفريقية وذلك على ضوء قرار الإدارة الأمريكية بتأسيس قيادة عسكرية لإفريقيا تعرف باسم "افريكوم" تضاف إلى القيادات العسكرية الأمريكية الخمس المنتشرة في العالم. وتحدث في المؤتمر عدد من الخبراء والقيادات العسكرية الأمريكية، والقيادات العسكرية الزائرة من دول إفريقية مثل إثيوبيا ورواندا، وغانا، وكينيا وليبريا. وتم تقسيم الحوار إلى ثلاث محاور هي: المستجدات حول افريكوم ودورها، وأولويات الأمن الإفريقي، ونماذج التعاون الأمريكي الإفريقي في مجال الأمن.

وكان الرئيس بوش قد أعلن في فبراير الماضي تأسيس قيادة عسكرية جديدة خاصة بإفريقيا، كما قام في شهر يوليو الماضي بتعيين الجنرال وليام وورد كأول رئيس للقيادة العسكرية الأمريكية الجديدة، ينوب عنه نائب مدني بدرجة سفير من وزارة الخارجية، كما سيتم تعيين عدد من الموظفين المدنيين في مقر الرئاسة، مما يضفي على القيادة بيروقراطية من نوع جديد. ومن المقرر أن تبدأ افريكوم في القارة عملها في أكتوبر 2008، حيث تعمل قيادتها حاليا من مدينة شتوتغارت بألمانيا.

وإذا كان أمر تأسيس القيادات العسكرية الأمريكية الخمس الموجودة حول العالم قد أملته ظروف الحرب- مثلما حدث مؤخرا في تأسيس القيادة العسكرية الوسطى التي جاء تأسيسها كنتيجة لقيام الثورة الإيرانية وأزمة الرهائن الأمريكان وظهور وصعود صدام حسين في العراق كخطر يهدد المنطقة- فإن تأسيس افريكوم أملته ظروف وتداعيات أحداث 11 سبتمبر الإرهابية، حيث صدر قرار تشكيلها بصفة أساسية من اجل تطبيع العلاقات مع إفريقيا للمساعدة في حل القضايا العسكرية والأمنية والإنسانية معا.
وحاليا تتولى تنسيق المصالح العسكرية الأمريكية في إفريقيا ثلاث قيادات، حيث تخضع العمليات العسكرية في القرن الإفريقي للقيادة الوسطى، بينما تقع إفريقيا جنوب الصحراء في نفوذ القيادة العسكرية في أوروبا، في حين تتولى قيادة المحيط الهادي عمليات الجزر الواقعة قبالة السواحل الجنوبية الشرقية لإفريقيا. وبقيام افريكوم ستخضع كل أنحاء القارة الأفريقية لها، باستثناء مصر التي ستستمر تبعيتها للقيادة الوسطى. ويعني هذا أن السودان سيتبع في المستقبل القريب لأمر قيادة افريكوم الجديدة ومن ثم خروجه من نفوذ القيادة الوسطى المسئولة عن الشرق الأوسط .

وحسب ما هو معلن فإن الأهداف من وراء تأسيس افريكوم تكمن في مساعدة وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون" في القيام بمهامها بشكل جيد ومكتمل بناء على معلومات متحصل عليها من الأرض، والمساعدة في بناء القدرات الأمنية للدول الإفريقية، والمساعدة في الجهود الإنسانية والصحية والإنمائية. أو " لتنسيق المصالح الأمنية والعسكرية للولايات المتحدة في جميع أرجاء القارة" على حد قول الرئيس بوش.

ويعكس إسراع الولايات المتحدة في ترتيب وجودها العسكري في إفريقيا مدى تزايد أهمية القارة وظهورها كلاعب استراتيجي في مجالين من أهم المجالات لأمريكا هما: محاربة الإرهاب الذي اتخذ له قواعد في إفريقيا، وحماية الاستثمارات الأمريكية في القارة التي زادت إلى ثلاثة أضعاف في عهد الرئيس بوش وتأمين النفط الذي يصل منه للولايات المتحدة حوالي 22% من احتياجاتها.

هذه الخطوة لها دلالات كبيرة على أن الارتباط الأمريكي مع إفريقيا يدخل الآن مرحلة جديدة في مجال التعاون الأمني والعسكري والاقتصادي، بصورة قد تعمل على تشكيل مستقبل إفريقيا إلى "الأسوأ أو الأحسن"، فإن ذلك يعتمد على الطريقة التي ستدار بها هذه العلاقة الجديدة. وستكون "افريكوم" وعملها هي الأداة الأساسية لهذه العلاقة والمؤشر لاتجاهات الإستراتيجية الأمريكية الأمنية الجديدة.

أثار تأسيس قرار افريكوم الكثير من الجدل والقلق حيث ينظر لها عدد من الخبراء الأوروبيين والأفارقة على أنها تجسيد لعسكرة العلاقات الأمريكية الإفريقية، وانعكاس للامبريالية الأمريكية المفرطة، مما يعيد إلى الأذهان ما شكلته الحقبة الاستعمارية الأوروبية في الذاكرة الإفريقية واستهلاك الموارد البشرية والطبيعية للقارة. كما ينظر لها البعض على أنها امتدادا للوجود الأمريكي في العراق وأفغانستان، أو على الأقل تعزيزاً للروابط الأمريكية مع الأنظمة البغيضة في إفريقيا.

كذلك ثار جدل آخر حول الأهداف الأمريكية الحقيقية وراء تأسيس افريكوم حيث يقول البعض أن الهدف منها هو موازنة الوجود الصيني المتزايد في إفريقيا، في حين يقول آخرون أن غرضها هو تامين المصادر الطبيعية في إفريقيا من نفط وغاز وغيره.

كما يثور خلاف من نوع آخر حول مقر هذه القيادة الجديدة، فرغم أن الولايات المتحدة قد نفذت مناورات عسكرية مهمة عرفت باسم فلينتلوك شاركت فيها ثلاث عشرة دولة افريقية، ومناورات أخرى خاصة بمكافحة الإرهاب مع دول المغرب العربي عرفت باسم " الشراكة عبر الصحراء لمكافحة الإرهاب" إلا أن الجزائر رفضت استضافتها وترددت كل من المغرب وتونس في الوقت الحالي، في حين تقدمت دول مثل ليبريا وجيبوتي إثيوبيا لاستضافة هذه القيادة ، وتردد مؤخرا اسم موريتانيا كمرشح قوي لاستضافتها بشكل مستديم.

وتواجه افريكوم تحديات كثيرة تتعلق بالفقر المدقع الذي تعاني منه القارة، والحروب الأهلية المندلعة في بقاع كثيرة منها، والحروب الدولية في القرن الإفريقي، كما تواجه تحديات في التعامل مع الدول الفاشلة والمنهارة مثل الصومال حيث فشلت جميع بعثات عمليات حفظ السلام الدولية، وأصبحت الأوضاع أكثر تعقيدا من أن يتعامل معها عسكريا فقط.

ويرى مورو دي لورينزو الخبير بمؤسسة أميريكان انتربرايس لكي تنجح افريكوم في أداء مهمتها وتحقيق المصالح الأمريكية والإفريقية على السواء فعليها القيام بالاتي:
- أولا :توسيع فرص التعليم والتدريب للضباط الأفارقة مع التركيز على العلاقات العسكرية والمدنية والتخطيط الاستراتيجي والتنمية.
- ثانيا: أن تكون المعدات التي تمنح للجيوش الإفريقية قادرة على دعم عمليات الإغاثة من الكوارث وعمليات حفظ السلام.
- ثالثا: أن تركز افريكوم على دعم قدرات الجيوش الإفريقية في مجال عمليات حفظ السلام.
- رابعا: يجب ألا يتم إهمال قوى الأمن المحلية التي لها قدرات كبيرة على إعاقة أو حماية حياة الأفارقة على السواء.

وفي حين تطمع الإدارة الأمريكية أن ينظر الأفارقة لافريكوم باعتبارها الوكيل الأمريكي للأمن والتنمية في القارة، تسود تعقيدات فكرية وسياسية حول قدرة الولايات المتحدة على إدراك "المفهوم الإفريقي للأمن" ومدى فهمها للاولويات واستجابتها للمصالح الإفريقية الأمنية من وجهة النظر الإفريقية أيضا وليست الأمريكية فقط. لذلك يتوجب على الإدارة الأمريكية توجيه كافة مصادرها نحو معالجة التحديات الأمنية التي تواجهها الدول الإفريقية لخلق أجواء آمنة للنمو والازدهار. ويمكن لافريكوم أن تخدم مصالح الطرفين إذا استطاعت تقديم الخدمات اللازمة لبناء مؤسسات أمنية لدعم التحول الديمقراطي وبناء دول ديمقراطية.


* تم نشرها في الصحافة السودانية، وصحيفة إيلاف العربية بلندن.

Monday, January 14, 2008

أبيي و الولاء المزدوج
بقلم إبراهيم علي إبراهيم المحامي-واشنطن

(تم نشر هذا المقال قبل التوقيع على اتفاق السلام في نيروبي بعدة شهور، ولحقيقة تطورات الأوضاع بشأن منطقة أبيي نعيد نشر الجزء الخاص بها مرة أخرى.)
عودة شبح التاريخ: بالنظر للاقتراحات المثيرة للجدل التي قذف بها السيد/ دانفورث مندوب الرئيس بوش في وجه المفاوضين على عجل قبل أن يغادر مطار نيروبي عائدا لواشنطن والخاصة بمعالجة وضع منطقة أبيي تتضح العجلة الأمريكية في أمر السودان وبذلك تعيد الولايات المتحدة إلى الأذهان ذكرى تلك الأحداث والقرارات المستعجلة وشبح أخطاء الماضي ، حيث تصنع هذه الاقتراحات من أبيي نموذجاً مصغراُ من "جنوب السودان" أي جنوباً آخرا لما تبقى من السودان.
تؤكد هذه المقترحات أن الولايات المتحدة لم تعي درس الماضي حينما اصطدمت جهودهم بالعقبة الكئود المتمثلة في حسم الوضع المتميز لمنطقة أبيي. ففي ظل عجلتهم لإنجاز نصر خارجي في ملف السودان يضاف إلى رصيد الرئيس بوش ليخوض به حملته الانتخابية التي انطلقت مبكرا هذا العام ، يسود التخوف في أوساط الإدارة الأمريكية من أن تقف منطقة أبيي عقبة في سبيل إحراز هذا النصر ،وقد تؤدي إلى نسف المفاوضات و من ثم ضياع الجهود الأمريكية أدراج الرياح ، خصوصا وان الوقت لا يكفي لاتخاذ اي عقوبات قاسية ضد حكومة السودان. وقد تجسد هذا الخوف في أقوال السيد/ شارلز شنايدر مساعد وزير الخارجية للشؤون الأفريقية أمام اللجنة الفرعية لإفريقيا بمجلس النواب حيث ذكر ان ابيي قد تنسف المفاوضات وبعد ذلك ستضطر الإدارة إلى فتح ملفات معروفة للجميع تتلخص في ملف حقوق الإنسان ، وملف الإرهاب ، ومحاولة اغتيال الرئيس حسن مبارك لاستخدامها ضد الحكومة السودانية. يتضح من هذه العجلة أن الإدارة الأمريكية لم تع درس الماضي المتمثل في الوضع الذي واجه الإنجليز بشأن الجنوب بعد أن دان لهم السودان. فقد كانت أفكارهم تتأرجح بين ضمه لشرق إفريقيا أو ترك أمره للشماليين. وفي نهاية المطاف كما هو معلوم اختار الإنجليز ضمه للشمال دون وصفة دقيقة تحدد شكل هذا الضم وتحكم علاقاته. وقد رأينا نتيجة ذلك الضم المتعجل المتمثلة في وطن أنهكته الحرب ، وفقدان لملايين من الأرواح وفي الخراب الاقتصادي والدمار الاجتماعي الذي لحق بالسودان من جراء الحرب. فالآن يجد الأمريكان أنفسهم في نفس تلك الحيرة التي واجهت البريطانيين منذ أمد طويل. فتقدمت الإدارة الأمريكية بمقترحات من شأنها أن تجعل لمنطقة أبيي قلبين في جوف واحد بحيث يكون لها ولاء للشمال وفي نفس الوقت ولاء للجنوب.
تطور الموقف الأمريكي:لم يكن السودان مهماً في نظر الإدارة الأمريكية عندما كان على أعتاب الاستقلال ، فقد فضلت الإدارة الأمريكية عدم التدخل في شئون السودان وهو في أحرج أوقات تاريخه للاختيار بين الضم لمصر أو الاستقلال. وعموما أيدت الولايات المتحدة استقلال السودان وتمنت في خطاب تأييدها أن يشكل السودان جسرا بين شمال وجنوب الصحراء. وبعد ذلك ظل السودان بعيدا عن دائرة الاهتمام الأمريكي حتى النصف الثاني من عهد الرئيس كلينتون حيث أعيت المحاولات التجمع الوطني الديمقراطي وهو يحاول إقناع الإدارة الأمريكية بأهمية التدخل في شئون السودان. وقد تطور الموقف الأمريكي تجاه السودان تطورا حثيثا طبقا لتطور وكبر حجم ملفات الإرهاب في دوائر أجهزة الاستخبارات الأمريكية حيث كان ملف القاعدة يتضخم يوما بعد يوم ، ثم وجود أسامة بن لادن بالسودان وعلاقته بالحكومة وتضخم ملفات حقوق الإنسان في السودان، إلى وقوع أحداث 11 سبتمبر التي غيرت السياسة الأمريكية وحساباتها بصورة جوهرية ، حيث أصبحت حرب الإرهاب من أهم علامات هذه الحقبة من التاريخ السياسي ، ثم أردف ذلك ظهور النفط في السودان وزيادة الاهتمام الدولي بالسودان وتكالب المطامع الدولية عليه. وكنتيجة مباشرة لهذه التطورات في السياسة الخارجية الأمريكية تبلور الموقف والاهتمام الأمريكي بالسودان بشكل ملحوظ ، و أحرز تقدما بصورة إيجابية بحيث وصل الأمر إلى حد منح إيقاف الحرب الأهلية في السودان الأولوية في السياسة الخارجية للإدارة الحالية. وكان أن اتخذت الإدارة الأمريكية حزمة من الإجراءات والسياسات تتمثل في القرارات التي أصدرتها الخارجية والقوانين التي أصدرها الكونجرس مثل قانون سلام السودان ، ثم جاءت ورقة معهد الدراسات الإستراتيجية والدولية بتكليف من الإدارة الأمريكية التي أوصت بتطبيق نظامين للحكم في السودان ، واحد للشمال وآخر للجنوب ضمن دولة موحدة. أصبحت هذه السياسات هي المرتكز للوساطة الأمريكية في النزاع السوداني حيث دفعت الإدارة بفريق كبير من الخبراء والدبلوماسيين والعسكريين يتقدمهم القس دانفورث وطاقم السفارة بالخرطوم ، وبإشراف مباشر من السيد/ مساعد وزير الخارجية للشؤون الأفريقية ، ثم توجت هذه الجهود بزيارة وزير الخارجية نفسه للعاصمة نيروبي حيث التقى بزعماء الفريقين وحثهم على ضرورة الوصول إلى اتفاق سريع ينهي النزاع في السودان.
أهم ملامح المقترح الأمريكي:يمكن تلخيص أهم ملامح المقترح الأمريكي بشأن وضع أبيي في الآتي:- وضع إداري خاص تحت إشراف رئاسة الجمهورية أثناء الفترة الانتقالية.- يكون لها مجلس تنفيذي معين أثناء الفترة الانتقالية بواسطة رئيس الجمهورية.- يكون لمواطني أبيي حق التمثيل في ولايتي غرب كردفان وبحر الغزال.- نشر مراقبين دوليين في المنطقة.- في النهاية إجراء استفتاء على خيارين الأول: أن يكون لأبيي وضع خاص ضمن الشمال ، والثاني: أن تضم للجنوب.
وبقراءة متأنية لهذه المقترحات في ظل الوضع التاريخي والسياسي لمنطقة أبيي يتضح أن المقترح الأمريكي من شأنه أن يؤدي إلى الآتي:- خلق ازدواجية في المنطقة وبذر بذور الفرقة بين سكانها وذلك بتمثيل المواطنين في مجالس ولاية غرب كردفان ومجالس ولاية بحر الغزال (الجنوب) ، هذا من شأنه أن يفلق وجدان السكان بين ولاء لجهتين مختلفتين شمالية وجنوبية ويدعو إلى الاستثارة العنصرية في المنطقة. فكأنه أراد القول أن المسيرية لهم الحق في التمثيل في الشمال أما دينكا انقوك فيمثلون في بحر الغزال ، وهذا لعمري وضع غريب وغير مسبوق في العالم. أن حصر التمثيل النيابي في المنطقة الواحدة وتحديده بالانتماءات القبلية هو أمر غير معروف ولم يألفه القانون الدولي ، والمطلوب هو تحديد وجهة سكان المنطقة بأسرهم بغض النظر عن انتماءاتهم القبلية ، ومن ثم تمثيلهم في ذلك الإقليم.- إرجاء معالجة وضع منطقة أبيي سوف يجعل منها منطقة "رمادية" وبؤرة لنزاع مستقبلي "كشمير أخرى" تندلع بسببها الحرب من جديد بين الشمال والجنوب ، كما أشار إلى ذلك الزعيم الاتحادي الأستاذ علي محمود حسنين المحامي ، آخذين في الاعتبار هذا الولاء المزدوج الذي ستخلقه المقترحات الأمريكية إذا ما قدر له التطبيق. - قام المقترح بتوزيع الثروات على أسس قبلية ، مما يعيد القبيلة إلي السطح مرة أخرى ، ويؤكد رغبة أمريكا في رسم فدرالية سودانية على أسس عرقية في المنطقة مما يهدد وحدة السودان ككل ، ووحدة إقليميه الشمالي والجنوبي كل على حده ، حيث تسود النزاعات القبلية في كليهما.- يخلق المقترح الشكوك في نوايا اتفاق السلام القادم برمته ويصور المفاوضات كأنها تهدف إلى رسم حدود دولة جنوبية مستقلة. وفي هذا مجافاة لروح ونصوص اتفاق مشاكوس الهادي و المرشد للمفاوضات ، حيث التزم الطرفان بمناقشة قضية الأراضي الواقعة جنوب خط عرض (10) كما أسلفنا ، مما يستبعد منطقة أبيي منها.
وبالنظر إلى مقترحات السيد/ دانفورث نجد أنها حاولت أن توفق بين الوضعين ، فجعلت منها منطقة رمادية – مثلما كان الجنوب طوال تاريخه لا هو خاضع لحكم الشمال ولا هو مستقل بنفسه لذا شهدنا الحرب- كما حاول أن يخلق لها قلبين وذلك بمحاولة تمثيلها في ولايتي بحر الغزال وغرب كردفان - أي "مشبّحة" كما نقول في العامية السودانية. صحيح أن وضع أبيي يهدد بنسف المفاوضات ، ولكن إذا قبلنا بمقترحات دانفورث ومنطق الولاء المزدوج لأبيي فهذا من شأنه أن يشكل تهديدا لأمن واستقرار السودان بشماله وجنوبه ، و "كشمرتها" ، و من شأنه أن يشكل قنبلة موقوتة تهدد "النظامين" بحرب ضروس تقضي على كليهما.
كذلك يلاحظ أن المقترح لم يحدد مواعيد إجراء استفتاء ابيي وهذه قضية حيوية بالنسبة لتنفيذ استفتاء تقرير المصير للجنوب ، فلابد من إجراء استفاء أبيي اولا بوقت كاف حتى تتضح لها خياراتها بصورة مبكرة ، فإذا اختارت الشمال استبعدنا مشاركتها في استفتاء الإقليم الجنوبي الذي سيجرى بعد ست سنوات ، و إذا اختارت الجنوب جاز لمواطنيها المشاركة في استفتاء تقرير مصير الجنوب. كذلك فإن المقترح الأمريكي لم يحدد تفاصيل الاستفتاء ومن هم الذين يتم استفتاءهم هل هم الدينكا عامة ، أم دينكا انقوك فقط ، أم كل شعب المنطقة عربا كانوا أم أفارقة ؟ و الأهم من ذلك فإن الاستفتاء لا بد أن يحدد النسبة المطلوب الحصول عليها لاعلان الأحقية في الضم للجنوب ، وهذا أمر معروف في القانون الدولي وقد حدث كثيرا في العالم ، وهناك سابقتين مشهورتين هما: قضية كويبك في كندا وقضية سكوتلندا حيث تم تحديد نسبة لهما يجب الحصول عليها بموجب الاستفتاء حتى يستطيعا الانفصال ، وقد عجزا عن تحقيق ذلك حتى الآن. فهل نكتفي بنسبة 51% فقط لتقرير وجهة أبيي الأبدية ، أم نحدد نسبة عالية كما حدث في المثالين المذكورين أعلاه ؟ ويفضل فقهاء القانون الدولي تحديد نسبة عالية للجهة التي ترغب في تحقيق وضعاً مغايرا عما كانت عليه. لذا نرى تحديد نسبة عالية لمواطني أبيي الراغبين في الانضمام للجنوب لان الأصل هو تبعيتها للشمال. ردود فعل الحكومة والقوى السياسية الأخرى:أثارت هذه المقترحات الأمريكية جدلا واسعا في الأروقة السياسية السودانية وامتلأت صفحات الصحف بالتصريحات الرافضة لقادة بعض الأحزاب . و قد اتخذت هذه النقاشات والمداولات مسارات مختلفة ولكنها لا تزال تعود إلى نفس النقطة التي ينطلق منها الجميع وهي اتفاق مشاكوس الإطاري الذي حدد الشمال من الجنوب بموجب حدود عام 1956 والتي تشير إلى خط عرض (10) ومن ثم تطبيق الوصفة الأمريكية "نظامين في دولة واحدة" ضمن هذه الموجهات الحدودية التي تعرف حدود كل "نظام". ويفرض هذا المنطق الاختيار بين فرضيتين لتبعية منطقة أبيي: واحدة تقول أنها تتبع للشمال وتستند إلى حقائق جغرافية وتاريخية وسياسية في جدلها وأخرى تريد تبعيتها إلى الجنوب وتستند إلى أغلبية الشعب الذي يقطن المنطقة، كما تسندها دوافع عاطفية وسيكولوجية تتعلق بحقيقة انتماء بعض قيادة الحركة الشعبية إلى هذه المنطقة ، مما يضيف إلى العقدة صعوبات أخرى. فكيف يتنازل عن وطنه الصغير من حارب من اجل وطنه الكبير ، وكيف سيتم تصويرهم من قبل الشعب الجنوبي إذا تنازلوا عن أبيي وقبلوا إعادة توطين أنفسهم في منطقة ما في الجنوب. و هكذا كم هو الوضع معقد.
للخروج من هذا المأزق قدمت الحكومة رداً شاملا تناولت فيه كافة القضايا المتفاوض حولها في صفحات بلغت السبعين يتوسطها ردها حول موضوع أبيي . وتوضح طريقة رد الحكومة شيئين: الأول انها عجزت عن المواجهة والتصريح بكلمة لا ، ثانيا: أنها قد أرهقتها طريقة التفاوض المتبعة في نيفاشا وأنها تكبدت خسائر فادحة حتى الآن تتمثل في تقديم تنازلات جمة لم ترى مقابلا لها من جانب الحركة الشعبية. لم تحرز الحكومة أي نصر حتى الآن في طريقة التفاوض المتبعة على أساس كل موضوع على حدة piece by piece فلجأت إلى تقديم ردها في شكل حزمة واحدة فألقت بمقترحاتها فيما تبقى من قضايا في ورقة واحدة حتى تكون على بينة من أمرها إذا خسرت في نقطة تبقي عينها مفتوحة على الأخرى. وقد أكد ذلك السيد/ إبراهيم احمد عمر رئيس المؤتمر الحاكم أن الحكومة قدمت ردها وفق رؤية متكاملة لكل القضايا. على كل لم يغير أسلوب الحكومة في المراوغة من شئ فقد عادت المفاوضات إلي مجراها القديم ليواصل الطرفان البحث في كل قضية على حده.
أهم ملامح ورقة الحكومة السودانية هي أنها تتحدث عن نسب لاقتسام السلطة ومقاعد البرلمان بينها وبين الحركة الشعبية بصورة يمكن أن يطلق عليها شراكة سياسية بإطار دستوري جديد يكون أساسه اتفاق السلام المشهود عليه عالميا وإقليميا. وقد جاء مقترح الحكومة اكثر أريحية من مقترحات الحركة الشعبية حيث اقترحت الحكومة نسبة 25% من الحقائب الوزارية ، و16% من مقاعد البرلمان للأحزاب الأخرى. في حين لم يشغل مقترح الحركة نفسه بمستقبل القوى السياسية الشمالية الأخرى ولم يمنحها نسبة واضحة من السلطة ، بل منحها 10% فقط من مقاعد البرلمان من الكيكة القومية. ورغم ذلك ذلك فقد تراجعت الحكومة عن موقفها المعلن من تمسكها بأيي ، ووافقت على مقترحات السيد/ دانفورث بخصوص أبيي ، وقد أكد ذلك السيد/ رئيس الجمهورية البشير في حديثه المنشور الأسبوع الماضي بأن الحكومة قد وافقت على المقترح الأمريكي حول أبيي "كأساس للتفاوض حوله" . هذا الموقف يستشف منه أن الحكومة قد تنازلت بالفعل عن أبيي ولكنها لا تريد الإعلان عن ذلك فلجأت. خطورة التجاوزات لمرجعية التفاوض مشاكوس:إن أي اتفاق إطاري للمفاوضات هو المرجعية لسير هذه العملية السلمية ، وان أي تجاوز لذلك سوف يفتح الباب واسعا ويغري الطرفين بتجاوزات أخرى مما يؤدي إلى إهدار جهود الوسطاء ، و ضياع ما تم من إحرازه من تقدم ، و نسف العملية السلمية برمتها. مشاكوس هي المرجعية والإطار العملي الذي يحكم خط سير المفاوضات في نيفاشا ، وهو إطار قد تم تصميمه وتطويره لوضع الطرفين (الحكومة والحركة الشعبية) في طاولة المفاوضات لوضع حد لمشكلة الحرب الأهلية و الوصول لحل يحقق السلام في جنوب السودان. ان أي مخالفة لهذه المرجعية من شأنها أن تخلق حالة من التوهان والفوضى كما حدث في مفاوضات ابوجا التي كانت تسير دون الالتزام بأي إطار عملي. مع وجود هذه المرجعية التي شملت فيما احتوت على موجهات بشأن الحدود الجغرافية للتأكيد على ما يقصد بالشمال وما يقصد بالجنوب حين يتم التعاطي والتداول والتفاوض وصولا إلى مرحلة النصوص والتوقيع. فقد حددت هذه المرجعية الجنوب بحدود عام 1956. مع وجود هذه المرجعية لا يجوز الغوص في تبريرات جغرافية أو تاريخية كانت أو أي جدل يتعلق بنوع السكان الذين يقطنون المنطقة ، لاثبات هوية أو تبعية منطقة أبيي. وان وجود أغلبية لدينكا انقوك في المنطقة لا يجعل منها جنوبية وبالتالي يعطل تطبيق اتفاق مشاكوس عليها ، مثلما أن وجود أغلبية للجنوبيين في منطقة الحاج يوسف لا يمكن أن يخلق منها منطقة جنوبية أيضا.
إن الضغط الشديد الذي تمارسه الإدارة الأمريكية بصورة تجاوز الحدود المرغوبة ربما دفع الأطراف إلى التوقيع على قرارات ليست في الواقع قرارات حقيقية Decisions that are not genuine مما يجعل أمر تنفيذها معقدا للغاية ان لم يكن مستحيلا ، ويدفع الأطراف للمساهمة بأيديهم في تخريب ما أنفقوا عامين ونصف في بنيانه ، وفي هدم آخر ما تبقى للسودانيين من أمل في بناء دولة المستقبل وإيقاف الحرب إلى الأبد ، وفي توقيعهم على خلق أزمة أخرى بأيديهم تكون بؤرة للحروب بين الشمال والجنوب سواء كان الوضع وحدة أم انفصالا.
صحيح إن ممارسة الضغوط الإيجابية والمرغوبة Due Influence هي أمر مرغوب فيه وقد أوصى به المحللون من اجل حث الأطراف على توقيع اتفاق يوقف الحرب ويعيد السلام المفقود لدولة السودان المنهكة. إلا أن ممارسة الضغوط الشديدة بصورة تجاوز الحدود المطلوبة أو التزيد فيها قد يدفع الطرفان على التوقيع على نقاط وشروط لا يرغبان في تنفيذها ، ويضمران ذلك خوفا من الوسيط الذي يقف لهما بالمرصاد. أو قد يدفعهما إلى اتخاذ قرارات لا تجد قبولا من الشعب ، مما يدفعهم إلى التنصل منها أو التنكر لها تحت ضغط أي مظاهرات بعد انفضاض المولد. فالوساطة الأمريكية بدلا من أن تفض الاشتباك وتقود إلى التوقيع على اتفاق سلام حقيقي وعادل ، يمكن أن تؤدي إلى إجهاض ذلك الغرض النبيل من المفاوضات ، والإيتاء باتفاق هش ، أو قتل أحد طرفيها ، مما يجعل هذه الوساطة عديمة الجدوى وذات اثر معكوس إذا استمرت على هذا المنوال. إن المقترح الأمريكي من شأنه أن يهدف في النهاية إلى جعل منطقة أبيي منطقة جنوبية آخذين في الاعتبار الاستراتيجية الأمريكية للبترول التي قمت بشرحها في مقال سابق لي بالصحف السودانية ، والذي تحدثت فيه عن هوية البترول السوداني :هل هو عربي أم أفريقي؟ وترى استراتيجية تأمين الطاقة الأمريكية ضرورة الاتجاه نحو إفريقيا للبحث عن النفط ، والابتعاد عن نفط الشرق الأوسط العربي لخطورة ذلك على السياسة الخارجية الأمريكية لكثرة مشاكل المنطقة الجيوسياسية . كذلك ترى هذه الاستراتيجية أن منظمة الاوبك أصبحت منظمة كسيحة لا تخدم المصالح الأمريكية وان طريقة تفكيرها أصبحت شرق أوسطية زيادة عن اللازم. كما ترى أن تحث الإدارة الأمريكية الدول الإفريقية المنتجة للنفط على عدم دخول منظمة الاوبك باعتبارها منظمة أفسدها التفكير العربي. بالطبع لن يغفل الوسيط الأمريكي هذه الاستراتيجية وأهدافها المستقبلية وهو يحاول معالجة وضع منطقة أبيي الغنية بالنفط بين الشمال (ليصبح نفطها عربي الهوية غالبا ما يتجه نحو الاوبك) وبين الجنوب (نفط إفريقي) . فسيحاول الوسيط الأمريكي بكل الطرق تمهيد تبعيتها للجنوب المتحفز للانفصال ، أو جعلها بؤرة للنزاعات المستقبلية بين الشمال والجنوب ، ومركزا للاستقطاب الدولي كأضعف الإيمان. بهذه المقترحات تضمن أمريكا الهوية الإفريقية لمعظم مخزون السودان من النفط.
ومع بعض التفاوت والاختلافات بين وجهات النظر لما يمكن أن تؤول إليه منطقة أبيي ووضعها المستقبلي المتأرجح بين الشمال والجنوب ، أو جعلها منطقة محايدة كتلك التي بين السعودية والكويت أو "كشمرتها" بإعلان تبعيتها للشمال إداريا مع الاحتفاظ بالحقوق القانونية لتبعيتها المستقبلية للجنوب! أو جعلها "منطقة مقفولة" كتلك التي كانت في الماضي ، فانه يكاد يكون هنالك اتفاق الآن بين المراقبين والمحللين على أن هذه المنطقة ستكون مركز جذب واستقطاب استراتيجي للمصالح الدولية وبالتحديد المصالح الأمريكية التي تستهدف نفط إفريقيا في المستقبل القريب.
وعلى خلاف الوضع في السبعينات - حيث كان معظم قادة الانيانيا من الاستوائية - تكمن أزمة أبيي الذاتية في حقيقة أن بعض قيادات الحركة الشعبية تنتمي إلى هذه المنطقة. و إن كان قد تم تجاهل إجراء الاستفتاء الذي كان مقررا إجراؤه بموجب نصوص اتفاقية اديس ابابا 1972، فأملي أن تدفع هذه الحقيقة المفاوضين إلى الاستعجال بالانتهاء من موضوع ابيي حتى لا يتم تجاهله وإهمالها مرة أخرى مما يشكل تهديدا لامكانية تنفيذ اتفاق السلام بأكمله. يقول درس الماضي إن تأجيل استفتاء أبيي سوف يؤدي في النهاية إلى وضع العقبات أمام تنفيذ اتفاق السلام ، مثلما حدث في اتفاقية أديس أبابا ، إذ يعتبر الكثيرون إن عدم إجراء استفتاء أبيي قد شكل بداية النهاية لاتفاقية السلام لعام 1972.
انتهىإبراهيم علي إبراهيم المحاميواشنطن

عودة الحركة الشعبية أم عودة أولاد قرنق.
إبراهيم علي إبراهيم المحامي
بعودة الحركة الشعبية لحكومة الوحدة الوطنية تكون قد عبرت بوضوح عن رضاها بالمواصلة في تنفيذ اتفاقية السلام رغم بقاء نفس العقد
والقضايا دون حل يذكر، مثل مسألة ترسيم حدود أخطر واغنى بقعة في السودان وهي منطقة أبيي الغنية بالنفط، وعملية انسحاب القوات المسلحة السودانية شمالا إلى حدود 1956، إضافة إلى قضية ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب، حيث تقرر إحالة جميع هذه القضايا العالقة إلى مصفوفة أو جدول للتنفيذ قد يصبح موازياً لجداول التنفيذ المرفقة بنيفاشا، مما ينفي عنها صفة الإلحاح. وبالطبع لم تكن قضايا مثل الحكم اللا مركزي والتحول الديمقراطي ضمن القضايا المثارة والتي لم تلق اهتماما من الشريكين حتى هذه اللحظة

وحقيقة كانت عملية السلام في نيفاشا قد دفعت بافتراض أن يصل الطرفان إلى قرار نهائي بشأن الوحدة أو عدمها في خلال ست سنوات هي عمر الاتفاقية. وقد أثبتت الأيام أن هذا لم يحدث على ارض الواقع إذ أن تنفيذ كل بنود نيفاشا يعني باختصار تحقيق «الوحدة الجاذبة» وما عداه يعني ترجيح خيار الانفصال في نهاية المطاف. وطالما أن التزام حكومة الإنقاذ بالوحدة الجاذبة هو أمر تجريدي وقابل للنقض، تبقى قضية أبيي، وانسحاب الجيش الشمالي التام من الجنوب، هي قضايا مهمة تعادل أهمية استقلال الجنوب في نظر البعض

وكان متوقعا من الشريكين الموقعين على الاتفاق أن يتحملا مسئولياتهما تجاه تنفيذ شروطه دون تجزئة أو استثناء، وان يكونا قادرين على تحويله إلى واقع. ولكن يبدو أن واقع حال الشريكين يتسم بالاهتزاز والضعف، فقد أعادت نيفاشا ترتيب الاولويات بالنسبة للطرفين مثلما أعادت ترتيب مراكز القوى فيهما. وأدت صراعات مراكز القوى داخل تنظيمات الشريكين و تصادماتهما إلى زيادة حدة الأزمة الأخيرة، وربما تعمدت بعض الجهات نشوبها وعملت لأجل ذلك

فلم يكن الرأي داخل الإنقاذ متجانسا بخصوص الاتفاقية، فهناك على الأقل ثلاثة تيارات ووجهات نظر متعارضة: فالأولى وجهة نظر معتدلة رأت الاستفادة من الظروف «وتجريب» التعايش السلمي مع الحركة لست سنوات ونصف السنة، بعد طول «جهاد» لم يثمر عن شيء بقدر ما استهلك قدرات ومقدرات الدولة والحركة الإسلامية، ووجهة نظر ثانية قوامها الجيش والأجهزة العسكرية والأمنية النظامية منها وغير النظامية التي لا زالت ترتكن إلى فكرة تدمير الحركة الشعبية وإخضاعها بالقوة والمواجهة المسلحة المستمرة، و فئة ثالثة متفرعة عن الثانية وتلتقي معها في هذا الهدف تقبلت اتفاقية نيفاشا للسلام «كأمر واقع» وكوسيلة لتدمير الحركة على مراحل

تسبب هذا الواقع الجديد الذي خلقته نيفاشا في إحداث صراعات واحتكاكات على كافة الأصعدة داخل النظام الحاكم، دفع نتيجتها «المعتدلون» الذين اشرفوا على المفاوضات والاتفاقية الثمن غالياً، فلم يلقوا ثناء، وبدلا عن ذلك نالوا جزاء ما حققوه من سلام وتم إبعادهم من السلطة الفعلية والأضواء، وشهدت الخرطوم انطلاق حملة سرية رسمية ضدهم وضد الاتفاق أطلقها صقور النظام الرافضون للسلام. وبدلا عن ذلك صعدت المنظومة الأمنية والعسكرية وصقور النظام وقبضت بشدة على مفاصل السلطة والدولة والتنظيم

ومن جانب الحركة الشعبية عمل استشهاد د. جون قرنق على الإخلال بمراكز القوى داخلها، فقلت فعالية ما يسمى «أولاد قرنق» الذين كانوا يسيطرون على مفاصل الحركة والقرار فيها، واشرفوا على عملية التفاوض وتوقيع الاتفاق والترويج له، حيث تم إبعادهم عن المناصب العليا والحساسة، وبدلا عنهم صعدت شخصيات لم تكن تنال احتراما من قبل دكتور قرنق نفسه، وتولت مناصب قيادية ليست في الحركة فحسب بل في الدولة وسلطة الجنوب معا

وفي ظل هذا التنافس بين القوى المركزية المتصارعة داخل الحركة الشعبية وبين صقور النظام المتزامن مع عدم تنفيذ قضايا أساسية مثل حدود أبيي وانسحاب القوات المسلحة شمالا إلى حدود 1956 كان لابد من نشوب الأزمة وحدوث التصادم، وتمكن «أولاد قرنق» العائدون بقوة من إدارتها بحنكة تامة وتوجيهها وتصعيدها إلى أقصى درجة، بعد أن اعدوا لها بزيارات سابقة لواشنطن اجتروا فيها مر الشكوى من أن قضية دارفور قد خطفت الأضواء من اتفاقية نيفاشا وان هنالك خطرا بالتالي عليها، ومن عدم رغبة النظام في تنفيذ بعض بنودها، ثم نجاحهم في تشكيل لجنة السفير شستر كروكر - فرانسيس دينق المنوط بها مراقبة تنفيذ نيفاشا

وكانت الحركة قد أظهرت تصميماً غير مسبوق على إيصال الأمور لهذا الحد من المواجهة حسبما شهدنا والتي بلغت حد طلب «الاستقواء» بالولايات المتحدة. وتجاهلت هذه الخطوة الخاطئة التقويم السنوي للسياسة الأمريكية، إذ ليس من الوارد أن تعمل الولايات المتحدة على استضافة مؤتمر لرعاية تنفيذ الاتفاقية في هذا التوقيت من السنة الانتخابية، كما أن الإدارة الأمريكية لن تغامر بإعادة النظر في نيفاشا التي تعتبر إحدى انجازات إدارة الرئيس بوش في السياسة الخارجية، كما أن التعاون الاستخباراتي بين إدارة بوش ونظام البشير فيما يسمى بالحرب على الإرهاب والأصولية الإسلامية لا زال يعتبر أمرا مهما في نظر إدارة بوش لا يمكن المخاطرة بخسرانه في هذه الظروف

وكانت الإدارة الأمريكية تدرك مخاطر هذا «اللجوء» و»الشكوى» وتعلم جيدا أنها لو طلبت من أي شريك تنفيذ أكثر مما يتحمله فان هناك خطرا من وقوع فشل اكبر لها، كما تدرك بصورة أكثر ان طرح أي حل أو وصفة جاهزة يقصي التحالفات السياسية التي أوجدتها نيفاشا سيمنع تحقق تقدم في نهاية المطاف ويهدد مستقبل الاتفاقية برمتها. كذلك إن الإدارة تعي جيدا أن الإخلال بتوازن الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة أو دول الاتحاد الأوروبي و الإفريقي للشريكين بصورة قد ترجح كفة شريك على حساب الشريك الآخر سيؤدي في النهاية إلى إلغاء قيمة هذا الدعم كلية، ويزيد من زعزعة الأوضاع وإهدار السلام في النهاية

كل هذا جعل الإدارة الأمريكية تصد الأبواب وتصم الآذان في وجه النائب الأول سلفاكير في زيارته الأخيرة للولايات المتحدة، و لم تبذل جهداً مقدراً لإنجاح محاولته لمخاطبة مجلس الأمن الدولي بصفته رئيساً لحكومة الجنوب مما يدل على ضعف الدعم الأمريكي لهذه الخطوة الجريئة، رغم المحاولات الظاهرة التي أجراها المندوب الدائم الأمريكي زلماي خليل زاد

وكانت الضحية بالطبع هي حكومة الوحدة الوطنية التي تعتبر اضعف الحلقات في اتفاقية نيفاشا. وقد أثبتت التجربة أن نسبة مشاركة الحركة في السلطة هي نسبة في عدد الوظائف التنفيذية فقط، وليست نسبة من السلطة الفعلية للحكومة. كل هذا جعل حكومة الوحدة الوطنية تبدو مثل عصا المطاط، لا يمكن كسرها، ولكن كثرة الشد والجذب جعلتها كلها اعوجاج. كذلك دفع الوزيران لام أكول وتيلارا دينق منصبيهما ثمنا لذلك، مما أعاد إلى الأذهان قصة رئيس الوزراء الصادق المهدي وحله للحكومة الديمقراطية الأخيرة من اجل إزاحة الوزير أبو حريرة الذي تعذر عليه إقالته

بالطبع لم تحل جميع المشاكل العالقة، وتم ترحيلها مثل ما يحدث كل مرة لوقت آخر، ولكن في النهاية إن ما حدث تم تسجيله كسابقة خطيرة في تعريض الاتفاقية لخطر الانهيار، وسيناريو قد يتكرر مع الشريكين ومع حركات أخرى مثل حركة دارفور أو جبهة الشرق التي وقعت اتفاقات مع الحكومة

وبعد انقشاع الأزمة وعودة «أولاد قرنق» لمقاليد الأمور بقوة رغم أن ذلك اخذ منهم أكثر من عامين، وكلف إثارة أزمة كادت تعصف باتفاق شامل تعتبر الحركة الشعبية هي المستفيد الأول منه، مما يفرض عليها أن تكون الأحرص على تنفيذه واستمراره لحين انتهاء اجله. صحيح أن قضية أبيي هي في غاية الخطورة من الناحية السياسية وتنذر بخطر قريب، كما لها أهمية من الناحية النفسية إذ ينتمي لها بعض قيادات الحركة الشعبية، كما أن قضية تحديد هوية النفط ما إذا كان شمالياً أم جنوبياً هي قضية مهمة لارتباطها بتحديد نسبة نصيب الجنوب منه، ولكن هاتين القضيتين ليستا ملحتين بالقدر الذي يؤدي إلى إثارة أزمة ويدل على ذلك تحويلهما لوقت آخر عبر هذه المصفوفة

إن اخطر ما يهدد اتفاق السلام وآلياته هو محاولة البعض للالتفاف حوله عن طريق خلق آليات موازية له، وجداول تنفيذ أخرى بديلة لتلك التي حددتها نيفاشا مهما كانت تسميتها. وتبرز علامات استفهامية كبيرة حول جدوى التدابير «المصفوفة» ومدى قدرتها على حل كافة القضايا العالقة، ومدى قوتها مقارنة بجداول تنفيذ اتفاقية نيفاشا، بصورة يسهل معها القول إن الأمر لا يعدو أن يكون سوى تكرار للنصوص ذاتها. إن ما يعوز الطرفين ليس مزيدا من النصوص بقدر ما يعوزهما مزيد من العزم والتصميم على تنفيذ التزاماتهما التي نص عليها الاتفاق. وإن ما يهم جماهير الشعب السوداني ليس هو عودة «أولاد قرنق» للسلطة وإنما هو قدرة هذا الفريق على انجاز قضايا أساسية مثل الحكم اللا مركزي والتحول الديمقراطي عبر الانتخابات القادمة، وتقرير المصير. إن المساس بالبنية القانونية للاتفاقية أو التساهل فيها يعني السماح بتدمير السلام

صحيح إن لام اكول وتيلارا دينق فقدا منصبيهما نتيجة لهذه الأزمة، ولكن سيكون لذلك في نهاية المطاف مردوده السيئ على بنية الحركة التنظيمية التي أساسها القبيلة، مما ينذر بمحاولة قريبة للانتقام يكون مسرحها هذه المرة جنوب السودان وليست حكومة الوحدة الوطنية. ومثلما أخذت عودة «أولاد قرنق» مدة عامين تقريباً فان أية ردة فعل متوقعة ستأخذ وقتاً هي الأخرى، رغم أن من يعرف لام أكول وما اشتهر به من عدم صبره على الأشياء قد يقول قولاً مغايراً

محامي وباحث متخصص في شئون الكونغرس / واشنطن

Tuesday, July 25, 2006

نهاية ثورة الإسلاميين في السودان

إبراهيم علي إبراهيم*
المحامي/واشنطن

كان سر قوة الحركة الإسلامية السودانية يكمن في دعوتها للدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة، والعدالة الاجتماعية والمساواة، واقتصاد السوق الحر التي عادة ما تجد قبولا وسط الشعوب المسلمة البسيطة. إلا انه بعد تجربة أكثر من عقد ونصف في الحكم تلاشت تماماً هذه القوة بموجب فكرة القوة نفسها التي أجهضت تلك المبادئ. وكان على الإسلاميين بعد توليهم أمر الحكم ارتكاب العديد من الأخطاء الجسيمة "الضرورية" في سبيل تحقيق القضايا الأمنية الكبرى وتطبيق تلك المبادئ الإسلامية، شأنهم شأن غيرهم من السياسيين الذين ينظرون دائما للمستقبل.

وبالطبع يرجع الفضل في صياغة هذه المبادئ والأفكار ونجاح الحركة الإسلامية في السيطرة على مقاليد الأمور في السودان في صبيحة 30 يونيو 89 إلى أفكار الشيخ حسن الترابي دون منازع، فقد وهبها سني عمره وعقله وعاطفته، إلى أن أوصلها للسلطة عبر الانقلاب العسكري. وكما يحلو للإسلاميين العرب تسميته بالشيخ الوحيد الذي أتى للحركة بدولة! وللأسف بفضله أصبح السودان في عهده وطناً للإسلاميين المتشددين الذين طردوا من أوطانهم نتيجة لتطرفهم وأفكارهم التكفيرية والانتحارية. كذلك كان سر قوة الحركة الإسلامية في السودان يرجع إلى ذلك المزيج النادر بين الرجال الحركيين والأفكار التي كان يروج لها الترابي آنذاك.

أما النائب علي عثمان طه الذي نال مؤخرا أيضا لقب "الشيخ" فمنذ أن أوكل إليه أمر تنفيذ الانقلاب قام بتكوين مجموعات تجارية واقتصادية داخلية ضخمة، من الأقارب والموالين وذوي العصبة، تتبع له مباشرة، وظف لها كل إمكانيات الحركة من قوة ومال وإعلام، كما قام بتكوين شبكة أمنية أوعز لها بتوظيف الموالين له فقط، ومن أهله وعشيرته، وحدد لها مهمة محددة هي تمكينه من السلطة، وحشد الأصوات اللازمة لأي عمل سياسي. كما أسس حلقات سياسية منظمة داخل الحركة ليضمن ولاءها له وحده لدرجة انه استطاع أن يحشد كل الأصوات لصالح موقفه في إقصاء الشيخ الترابي. كذلك لعب علي عثمان دورا كبيرا في تصعيد دور العسكريين المتحالفين مع الحركة والذين اتضح ضعفهم السياسي والفقهي بعد كل هذه السنوات في الحكم والتجربة.

وبعزل الترابي فقدت الحركة الإسلامية السودانية عقلها وقلبها النابض وأصبحت ضعيفة تتناوشها الرياح الدولية وتعصف بها أنواء القضايا المحلية المستفحلة، ويواجه قادتها أوامر القبض التي أصدرتها محكمة الجنايات الدولية. وهكذا بدأت نهاية ثورة الإسلاميين في السودان. صحيح أن علي عثمان والبشير لا يزالان يقبضان على السلطة، ولكن لهيب النار قد خبأ واختفى بريقه، وان الاستراتيجيات والسياسات التي شكلت توجهات الإنقاذ في الفترة الماضية التي وضعها الترابي ورفاقه لا تحكم إنقاذ اليوم.

يقول بعض الإسلاميين أن نهاية الحركة الإسلامية قد بدأت قبل ذلك بوقت طويل. وان الثورة ماتت يوم قفزت الجبهة القومية الإسلامية للأمام لاستلام السلطة بالانقلاب العسكري، تاركة برنامجها الديني ورائها. وماتت الثورة بسبب التكلفة البشرية والمادية الباهظة للجهاد الذي أعلنته ضد أجزاء أساسية من مواطني الدولة التي تريد أن تنفذ فيها مشروعها الحضاري، وماتت بسبب العنف غير المبرر أخلاقيا ضد معارضيها في المعتقلات وبيوت الأشباح سيئة الذكر التي يمارس فيها التعذيب والإذلال والتصفيات بصورة سبقت وفاقت سمعة أبو غريب. فمنذ أيامه الأولى ابتعد النظام الإسلامي عن كريم الأخلاق الإسلامية الحسنة لدرجة وصفته الصحافة العالمية بأنه نظام خليط بين الحكم الديني وجماعات المافيا، ووصفه بن لادن الذي كان ضيفاً عليه بأنه "نظام للجريمة المنظمة".

وماتت الثورة بسبب ما ظنه الإسلاميون "متطلبات ومستحقات السلطة والحكم" وعواقب استخدام سياسة القوة التي حكمت بها الإنقاذ في دولة مفككة ومنقسمة على نفسها وتحمل مزيدا من أسباب الفرقة والشتات، وبسبب الحرب التي شنتها ضد المسلمين أنفسهم في دارفور وشرق السودان، والنيل الأزرق وجبال النوبة، وبسبب تحول مراكز القوى في الحركة الإسلامية إلى القصر الجمهوري ومكاتب الأمن والمخابرات نتيجة لهذه السياسات.

فمثلها مثل باقي الأنظمة اعتمدت الإنقاذ على ثابت في السياسة السودانية لم يتغير في كل الأزمنة والحكومات ولم تشاء الإنقاذ تغييره، وهو علاقة الخرطوم بالأقاليم المختلفة تلك العلاقة التي تستند إلى تاريخ طويل من الاستغلال والحروب. وحقيقة قد جسدت الإنقاذ هذه العلاقة وكرست سياسات الظلم وانعدام العدل والمساواة، فوطدت سلطتها في الخرطوم عبر تحالف ومزج لثلاثة عناصر هي: تحالف قبلي واسري، تحت غطاء إيديولوجي إسلامي، تسنده آلة عسكرية أمنية. والغريب في الأمر رغم ظاهر الحال لا زالت الإنقاذ تتجاهل حقيقة تنوع السودان الديني والثقافي والعرقي، ولا تزال متمسكة بتطبيق مشروعها الثقافي الآحادي على كافة أقسام الشعب المختلفة والمتعددة فاندلعت الحرب عليهم من كل جانب في القطر، يقودها بنوها في بعض الجهات. وهذه مسيرة غباء نسجتها الإنقاذ بنفسها فلم تجد يوماً بلا حروب لتلتفت إلى قضايا التنمية والبناء والعدالة الاجتماعية والمساواة التي نص عليها الإسلام المتسامح.

ليس هذا فحسب، بل أن الإنقاذ عزلت نفسها عن قطاعات الشعب المسلمة التي "جاءت من اجلها" ولبناء دولتها، ففشلت في تحقيق تحالف بين المسلمين، وفضلت الانفراد بالسلطة والثروة، فلم تستوعب في أجهزة الحكم إلا كادرها الملتزم، ونأت بنفسها عن تيار الإسلام الوسطي العريض الذي يشكل السودان، كما نأت بتجربتها عن إشراك الطائفتين الدينيتين الكبيرتين والطوائف الأخرى رغم تمسكها بالإسلام. وهكذا أصبحت أداة الثورة ومحركها "الإسلام الحركي والأصولية" أداة عرقلة وفشل "للدولة الإسلامية" بعد أن كانت أداة جمع وحشد للحركة الإسلامية.

إن عزل الترابي في نهاية التسعينات كان بمثابة المؤشر الأخضر لتحرك الإنقاذ نحو نهايتها المحتومة الدانية. فالحركة الإسلامية التي ظلت تدعو وتطالب بدستور إسلامي حاربت من اجله منذ الستينات واتهمت معارضيه بالإلحاد والكفر عندما استلمت السلطة أتت بدستور دكتاتوري شبه علماني، لم ترد فيه كلمة أو إشارة لدين الدولة أو إسلاميتها. وهكذا انتهى حلم الإسلاميون بجمهورية إسلامية على أيديهم.

والآن يواجه إسلاميو السودان أسوأ وضع تشهده حركتهم في تاريخها الطويل، حيث يواجهون مشاكل معقدة ليس في يدهم حلها مثل قضية دارفور وسلسلة طويلة من النزاعات مع الحركة الشعبية الشريك في الحكم، وتكاثر وجود القوات الأجنبية والإفريقية ووقع حوافر القوات الدولية على الأبواب. وتواجه قيادتهم عدد من البلاغات الجنائية وأوامر القبض التي طالت حوالي ستين منهم لارتكابهم جرائم الحرب وانتهاك حقوق الإنسان، وسلسلة من الفضائح الدينية والأخلاقية مثل التصفيات التي أعقبت محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك الفاشلة، والتي كشف عنها تفاصيلها المثيرة الترابي بنفسه مؤخرا.

فمثلما كشف الشيخ الترابي "صاحب الثورة" عن سوءاتها وجرمها وانحلالها الأخلاقي والديني، كشفت تصريحاته الأخيرة عن الغطاء الإيديولوجي المتهالك الذي كان يوفره لها الشيخ نفسه. وبالفعل أصبحت الإنقاذ بلا غطاء أيدلوجي بعد إزاحة الترابي وعزله، حيث لم تمنعهم قدسيته وأبويته للحركة و"ثورتها" من اعتقاله فأصبحت ثورتهم أول ثورة في التاريخ "تأكل أباها" كما قال د. قرنق. كذلك انكشفت أفكار الشيخ الدينية "باعتباره المرجعية الدينية" بعد جرأته الأخيرة في الفتيا التي البت عليه شيوخ الإسلام في بقاع الدنيا.

هذا الانكشاف والتعري الإيديولوجي جرد الحركة الإسلامية من أهم أسلحتها وهو قدرتها على تعبئة الجماهير وراء قراراتها بتوظيف سحر العباءة الدينية لصالحها. وفي ظل تنكر الترابي لأحكام ترى غالبية المسلمين صحتها وثباتها، تواجه الحركة الإسلامية إشكالا موضوعيا في شرعيتها الدينية نفسها.

لإنعاش الحركة الإسلامية وثورتها يقترح البعض انجاز وحدة بين الفريقين الوطني والشعبي وإعادة الروح للشعارات القديمة: جمهورية إسلامية بدستور إسلامي ومشروع حضاري ودولة عدالة اجتماعية ومساواة! ولكن هناك استحالة في حدوث تلك الوحدة خاصة أن الجراح التي تركها الانقسام ما زالت تنزف وقد زادتها تصريحات الترابي الخطيرة نزفا، لدرجة تؤكد أن صراعات الحركة الإسلامية قد وصلت مرحلة "علي وعلى أعدائي" في حرب البقاء. وهذه آخر مراحل الثورات. فكيف يتسنى للإنقاذ إعادة الروح لجسدها بعد أن فقدت جذوتها وقوتها والرؤية والأشخاص الذين يستطيعون القيام بتغيير وجهة الإنقاذ أو تغيير الواقع السياسي الماثل.

فعلى مدى عقد ونصف من الحكم فقدت الإنقاذ صدقيتها الدينية وفقد شيوخها القدرة على التأثير المعنوي ليس على الآخرين فحسب بل على أتباعهم بصفة خاصة. وحقيقة لا يوجد الآن اتفاق وسط المفكرين الإسلاميين في السودان حول ما تعنيه "ثورة الحركة الإسلامية" ، وان الإسلاميين الآن لا يقودون حركتهم ولا يملكون شيء في ثورتهم، وان المفكرين الإسلاميين لا مكان لهم إلا في صفحات الصحف. وأصبحوا ضيوفا على "ثورتهم" لا يساهمون في دعمها إلا بأضعف الإيمان وتمني عدم زوالها، فاختاروا طريقاً ثالثاً هو طريق الصمت بعد أن جبلوا على الحركة والثورة. لهذا أصبحت "الثورة" في أيدي قلة قليلة تربط بينها روابط عرقية وجهوية، لا زالت تمسك بزمام عسكري وامني، ولها خلافات شديدة مع الإسلاميين الحركيين والمفكرين في كل شيء تقريباً، وتعمل على تهميشهم كل يوم. وفي ظل غياب الايدولوجيا والأفكار المتماسكة أصبحت البرجماتية هي التي تحكم الإنقاذ. كل هذه تحديات قوية قد تعصف بما تبقى من الإنقاذ إن لم ينقذها منقذ آخر.

أما حزب "الثورة" المؤتمر الوطني فهو حزب صنيعة الإنقاذ الذي اختزلت فيه الحركة الإسلامية السودانية فتحول إلى اتحاد اشتراكي آخر، وأصبح ولاءه مقسما بين البيوت والأسر المستنفذة في الإنقاذ، كما صار ناديا لاقتسام غنائم السلطة والصراعات بين أقطاب الحركة. وبعد أن كان مقررا له أن يصبح الحزب الوحيد في الدولة وضعته الأقدار إلى جانب شركاء آخرين داخل قبة البرلمان ففقد الأغراض التي من اجلها صنع. وسوف يشهد هزيمة نكراء في أول انتخابات حرة ونزيهة تشهدها البلاد.
ونتيجة لهذه الأزمات السياسية المتفاقمة والقضايا التي تورط فيها قادة الإنقاذ يبدو أنهم عاجزين عن الدفاع عن أنفسهم ناهيك عن الدفاع عن حركتهم التي بنوها وثورتهم التي أتوا بها. وهكذا انتهت ثورة الإسلاميين في السودان!.
انتهى

* متخصص في شئون الكونجرس.