Monday, January 14, 2008

عودة الحركة الشعبية أم عودة أولاد قرنق.
إبراهيم علي إبراهيم المحامي
بعودة الحركة الشعبية لحكومة الوحدة الوطنية تكون قد عبرت بوضوح عن رضاها بالمواصلة في تنفيذ اتفاقية السلام رغم بقاء نفس العقد
والقضايا دون حل يذكر، مثل مسألة ترسيم حدود أخطر واغنى بقعة في السودان وهي منطقة أبيي الغنية بالنفط، وعملية انسحاب القوات المسلحة السودانية شمالا إلى حدود 1956، إضافة إلى قضية ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب، حيث تقرر إحالة جميع هذه القضايا العالقة إلى مصفوفة أو جدول للتنفيذ قد يصبح موازياً لجداول التنفيذ المرفقة بنيفاشا، مما ينفي عنها صفة الإلحاح. وبالطبع لم تكن قضايا مثل الحكم اللا مركزي والتحول الديمقراطي ضمن القضايا المثارة والتي لم تلق اهتماما من الشريكين حتى هذه اللحظة

وحقيقة كانت عملية السلام في نيفاشا قد دفعت بافتراض أن يصل الطرفان إلى قرار نهائي بشأن الوحدة أو عدمها في خلال ست سنوات هي عمر الاتفاقية. وقد أثبتت الأيام أن هذا لم يحدث على ارض الواقع إذ أن تنفيذ كل بنود نيفاشا يعني باختصار تحقيق «الوحدة الجاذبة» وما عداه يعني ترجيح خيار الانفصال في نهاية المطاف. وطالما أن التزام حكومة الإنقاذ بالوحدة الجاذبة هو أمر تجريدي وقابل للنقض، تبقى قضية أبيي، وانسحاب الجيش الشمالي التام من الجنوب، هي قضايا مهمة تعادل أهمية استقلال الجنوب في نظر البعض

وكان متوقعا من الشريكين الموقعين على الاتفاق أن يتحملا مسئولياتهما تجاه تنفيذ شروطه دون تجزئة أو استثناء، وان يكونا قادرين على تحويله إلى واقع. ولكن يبدو أن واقع حال الشريكين يتسم بالاهتزاز والضعف، فقد أعادت نيفاشا ترتيب الاولويات بالنسبة للطرفين مثلما أعادت ترتيب مراكز القوى فيهما. وأدت صراعات مراكز القوى داخل تنظيمات الشريكين و تصادماتهما إلى زيادة حدة الأزمة الأخيرة، وربما تعمدت بعض الجهات نشوبها وعملت لأجل ذلك

فلم يكن الرأي داخل الإنقاذ متجانسا بخصوص الاتفاقية، فهناك على الأقل ثلاثة تيارات ووجهات نظر متعارضة: فالأولى وجهة نظر معتدلة رأت الاستفادة من الظروف «وتجريب» التعايش السلمي مع الحركة لست سنوات ونصف السنة، بعد طول «جهاد» لم يثمر عن شيء بقدر ما استهلك قدرات ومقدرات الدولة والحركة الإسلامية، ووجهة نظر ثانية قوامها الجيش والأجهزة العسكرية والأمنية النظامية منها وغير النظامية التي لا زالت ترتكن إلى فكرة تدمير الحركة الشعبية وإخضاعها بالقوة والمواجهة المسلحة المستمرة، و فئة ثالثة متفرعة عن الثانية وتلتقي معها في هذا الهدف تقبلت اتفاقية نيفاشا للسلام «كأمر واقع» وكوسيلة لتدمير الحركة على مراحل

تسبب هذا الواقع الجديد الذي خلقته نيفاشا في إحداث صراعات واحتكاكات على كافة الأصعدة داخل النظام الحاكم، دفع نتيجتها «المعتدلون» الذين اشرفوا على المفاوضات والاتفاقية الثمن غالياً، فلم يلقوا ثناء، وبدلا عن ذلك نالوا جزاء ما حققوه من سلام وتم إبعادهم من السلطة الفعلية والأضواء، وشهدت الخرطوم انطلاق حملة سرية رسمية ضدهم وضد الاتفاق أطلقها صقور النظام الرافضون للسلام. وبدلا عن ذلك صعدت المنظومة الأمنية والعسكرية وصقور النظام وقبضت بشدة على مفاصل السلطة والدولة والتنظيم

ومن جانب الحركة الشعبية عمل استشهاد د. جون قرنق على الإخلال بمراكز القوى داخلها، فقلت فعالية ما يسمى «أولاد قرنق» الذين كانوا يسيطرون على مفاصل الحركة والقرار فيها، واشرفوا على عملية التفاوض وتوقيع الاتفاق والترويج له، حيث تم إبعادهم عن المناصب العليا والحساسة، وبدلا عنهم صعدت شخصيات لم تكن تنال احتراما من قبل دكتور قرنق نفسه، وتولت مناصب قيادية ليست في الحركة فحسب بل في الدولة وسلطة الجنوب معا

وفي ظل هذا التنافس بين القوى المركزية المتصارعة داخل الحركة الشعبية وبين صقور النظام المتزامن مع عدم تنفيذ قضايا أساسية مثل حدود أبيي وانسحاب القوات المسلحة شمالا إلى حدود 1956 كان لابد من نشوب الأزمة وحدوث التصادم، وتمكن «أولاد قرنق» العائدون بقوة من إدارتها بحنكة تامة وتوجيهها وتصعيدها إلى أقصى درجة، بعد أن اعدوا لها بزيارات سابقة لواشنطن اجتروا فيها مر الشكوى من أن قضية دارفور قد خطفت الأضواء من اتفاقية نيفاشا وان هنالك خطرا بالتالي عليها، ومن عدم رغبة النظام في تنفيذ بعض بنودها، ثم نجاحهم في تشكيل لجنة السفير شستر كروكر - فرانسيس دينق المنوط بها مراقبة تنفيذ نيفاشا

وكانت الحركة قد أظهرت تصميماً غير مسبوق على إيصال الأمور لهذا الحد من المواجهة حسبما شهدنا والتي بلغت حد طلب «الاستقواء» بالولايات المتحدة. وتجاهلت هذه الخطوة الخاطئة التقويم السنوي للسياسة الأمريكية، إذ ليس من الوارد أن تعمل الولايات المتحدة على استضافة مؤتمر لرعاية تنفيذ الاتفاقية في هذا التوقيت من السنة الانتخابية، كما أن الإدارة الأمريكية لن تغامر بإعادة النظر في نيفاشا التي تعتبر إحدى انجازات إدارة الرئيس بوش في السياسة الخارجية، كما أن التعاون الاستخباراتي بين إدارة بوش ونظام البشير فيما يسمى بالحرب على الإرهاب والأصولية الإسلامية لا زال يعتبر أمرا مهما في نظر إدارة بوش لا يمكن المخاطرة بخسرانه في هذه الظروف

وكانت الإدارة الأمريكية تدرك مخاطر هذا «اللجوء» و»الشكوى» وتعلم جيدا أنها لو طلبت من أي شريك تنفيذ أكثر مما يتحمله فان هناك خطرا من وقوع فشل اكبر لها، كما تدرك بصورة أكثر ان طرح أي حل أو وصفة جاهزة يقصي التحالفات السياسية التي أوجدتها نيفاشا سيمنع تحقق تقدم في نهاية المطاف ويهدد مستقبل الاتفاقية برمتها. كذلك إن الإدارة تعي جيدا أن الإخلال بتوازن الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة أو دول الاتحاد الأوروبي و الإفريقي للشريكين بصورة قد ترجح كفة شريك على حساب الشريك الآخر سيؤدي في النهاية إلى إلغاء قيمة هذا الدعم كلية، ويزيد من زعزعة الأوضاع وإهدار السلام في النهاية

كل هذا جعل الإدارة الأمريكية تصد الأبواب وتصم الآذان في وجه النائب الأول سلفاكير في زيارته الأخيرة للولايات المتحدة، و لم تبذل جهداً مقدراً لإنجاح محاولته لمخاطبة مجلس الأمن الدولي بصفته رئيساً لحكومة الجنوب مما يدل على ضعف الدعم الأمريكي لهذه الخطوة الجريئة، رغم المحاولات الظاهرة التي أجراها المندوب الدائم الأمريكي زلماي خليل زاد

وكانت الضحية بالطبع هي حكومة الوحدة الوطنية التي تعتبر اضعف الحلقات في اتفاقية نيفاشا. وقد أثبتت التجربة أن نسبة مشاركة الحركة في السلطة هي نسبة في عدد الوظائف التنفيذية فقط، وليست نسبة من السلطة الفعلية للحكومة. كل هذا جعل حكومة الوحدة الوطنية تبدو مثل عصا المطاط، لا يمكن كسرها، ولكن كثرة الشد والجذب جعلتها كلها اعوجاج. كذلك دفع الوزيران لام أكول وتيلارا دينق منصبيهما ثمنا لذلك، مما أعاد إلى الأذهان قصة رئيس الوزراء الصادق المهدي وحله للحكومة الديمقراطية الأخيرة من اجل إزاحة الوزير أبو حريرة الذي تعذر عليه إقالته

بالطبع لم تحل جميع المشاكل العالقة، وتم ترحيلها مثل ما يحدث كل مرة لوقت آخر، ولكن في النهاية إن ما حدث تم تسجيله كسابقة خطيرة في تعريض الاتفاقية لخطر الانهيار، وسيناريو قد يتكرر مع الشريكين ومع حركات أخرى مثل حركة دارفور أو جبهة الشرق التي وقعت اتفاقات مع الحكومة

وبعد انقشاع الأزمة وعودة «أولاد قرنق» لمقاليد الأمور بقوة رغم أن ذلك اخذ منهم أكثر من عامين، وكلف إثارة أزمة كادت تعصف باتفاق شامل تعتبر الحركة الشعبية هي المستفيد الأول منه، مما يفرض عليها أن تكون الأحرص على تنفيذه واستمراره لحين انتهاء اجله. صحيح أن قضية أبيي هي في غاية الخطورة من الناحية السياسية وتنذر بخطر قريب، كما لها أهمية من الناحية النفسية إذ ينتمي لها بعض قيادات الحركة الشعبية، كما أن قضية تحديد هوية النفط ما إذا كان شمالياً أم جنوبياً هي قضية مهمة لارتباطها بتحديد نسبة نصيب الجنوب منه، ولكن هاتين القضيتين ليستا ملحتين بالقدر الذي يؤدي إلى إثارة أزمة ويدل على ذلك تحويلهما لوقت آخر عبر هذه المصفوفة

إن اخطر ما يهدد اتفاق السلام وآلياته هو محاولة البعض للالتفاف حوله عن طريق خلق آليات موازية له، وجداول تنفيذ أخرى بديلة لتلك التي حددتها نيفاشا مهما كانت تسميتها. وتبرز علامات استفهامية كبيرة حول جدوى التدابير «المصفوفة» ومدى قدرتها على حل كافة القضايا العالقة، ومدى قوتها مقارنة بجداول تنفيذ اتفاقية نيفاشا، بصورة يسهل معها القول إن الأمر لا يعدو أن يكون سوى تكرار للنصوص ذاتها. إن ما يعوز الطرفين ليس مزيدا من النصوص بقدر ما يعوزهما مزيد من العزم والتصميم على تنفيذ التزاماتهما التي نص عليها الاتفاق. وإن ما يهم جماهير الشعب السوداني ليس هو عودة «أولاد قرنق» للسلطة وإنما هو قدرة هذا الفريق على انجاز قضايا أساسية مثل الحكم اللا مركزي والتحول الديمقراطي عبر الانتخابات القادمة، وتقرير المصير. إن المساس بالبنية القانونية للاتفاقية أو التساهل فيها يعني السماح بتدمير السلام

صحيح إن لام اكول وتيلارا دينق فقدا منصبيهما نتيجة لهذه الأزمة، ولكن سيكون لذلك في نهاية المطاف مردوده السيئ على بنية الحركة التنظيمية التي أساسها القبيلة، مما ينذر بمحاولة قريبة للانتقام يكون مسرحها هذه المرة جنوب السودان وليست حكومة الوحدة الوطنية. ومثلما أخذت عودة «أولاد قرنق» مدة عامين تقريباً فان أية ردة فعل متوقعة ستأخذ وقتاً هي الأخرى، رغم أن من يعرف لام أكول وما اشتهر به من عدم صبره على الأشياء قد يقول قولاً مغايراً

محامي وباحث متخصص في شئون الكونغرس / واشنطن

0 Comments:

Post a Comment

Subscribe to Post Comments [Atom]

<< Home